المبحث الثاني: قيمة الاهتمام بأصل العقيدة: إن الإيمان بالله ليس غريزة فطرية فحسب،بل هو ضرورة عقلية كذلك،وبدون هذا الاعتقاد الجازم سيظل السؤال الذي أثاره القرآن بغير جواب:" أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ؟ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ" وهم بداهة لم يُخلقوا من غير شيء، وطبعا لم يخلُقوا أنفسهم،ولم يدعِ أحد منهم ولا ممن قبلهم ولا من بعدهم أنه خالق السماوات والأرض.فليس تمت لهذا السؤال إلا جوابا واحدا ووحيدا ،كما أجاب بذلك المشركون أنفسهم:" وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ"
والاهتمام بأصل العقيدة يأتي من أن:
الفقرة الأولى :العقيدة أصل دعوة جميع الأنبياء: فلا شك أن النداء الأول الذي جاءت به كل رسالة هو"َيا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ" فبهذا دعا قومَه نوحٌ وهود وصالح وإبراهيم و لوط و شعيب وكل رسول بُعث إلى قوم مكذبين. قال تعالى"وََلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" وقال أيضا "َمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ"
وكل دعوة نبي تقوم على جانبين أساسين وهما: - جانب الإثبات:إثبات العبودية لله تعالى. - وجانب النفي: الابتعاد عما يشوب صفاء هذا الإثبات كالشرك.وهذا هو مضمون كلمة التوحيد
و قد قال الله تعالى بعد ذكر قصص طائفة كبيرة من الأنبياء:" إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" . (فهذه العبادة لله وحده هي العهد القديم الذي أخذه الله على بني الإنسان،وسجله بقلم القدرة في فطرهم البشرية ،وغرسه في طبائعهم الأصيلة ،منذ وضع في رؤوسهم عقولا تعي،وفي صدورهم قلوبا تخفق،وفي الكون حولهم آيات تهدي"أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ" فلا عجب أن يكون المقصود الأعظم من بعثة النبيين، وإرسال المرسلين،وإنزال الكتب المقدسة،هو تذكير الناس بهذا العهد القديم،وإزالة ما تراكم على معدن الفطرة من غبار الغفلة أو الوثنية أو التقليد. )
الفقرة الثانية: العقيدة أصل قبول العمل: فصلاح الاعتقاد أصلٌ في قبول العمل،قال سبحانه"مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يُعطى بها في الدنيا ،و يُجزى بها في الآخرة) لذا كان همهُ صلى الله عليه وسلم هو الدعوة إلى صحيح الاعتقاد ،فقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يطوف في سوق ذي المجاز بمكة وهو يقول: " أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" ولا أدل على أن فساد الاعتقاد لا ينفع معه صلاح العمل ما رواه البخاري في صحيحه ،باب قصة أبي طالب:[عن المسيب أن أبا طالب لما حصرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل،فقال:أي عم،قل لا إله إلا الله،كلمة أحاج لك بها عند الله،فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية:يا أبا طالب،ترغبُ عن ملة عبد المطلب؟فلم يزالا يُكلماهُ حتى قال آخر شيء كلمهم به:على ملة عبد المطلب.فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"لاستغفرن لك ما لم أُنه عنك"، فنزلت (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) ونزلت ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) ] . فلا شك في أن الدور الذي كان يقوم به أبو طالب حين كانت الدعوة الإسلامية في مهدها أنه كان عملا جبارا،حيث كان الحصن الذي تحتمي به الدعوة من هجمات الكبراء والسفهاء،لكن هذا التفاني في حب النبي صلى الله عليه وسلم وخدمة دين الإسلام لم ينفعه لفساد الاعتقاد الذي مات عليه،حيث تمسك بملة الأشياخ من أجداده فلم يُفلح كل الفلاح.ففي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب،قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أغنيت عن عمك،فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟قال:"هو في ضحضاح من نار،ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" وعن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صبى الله عليه وسلم – وذكر عنده عمه – فقال:"لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة،فيُجعل في ضحضاح من النار تبلغ كعبيه"
الفقرة الثالثة: العقيدة أصل تنمية الفرد والمجتمع: لأنها تنص على مكارم الأخلاق التي بها يصلح الفرد والمجتمع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"إنما بعث لأتمم مكارم الأخلاق" . وما الانهيار الأخلاقي الذي نشهده اليوم – وللأسف الشديد – إلا نتيجة حتمية لضعف الإيمان في القلوب،أو فقدانه. فالرجل المعوج السلوك ، الذي يقترف الرذائل غير آبه بأحد يصفُ الرسول صلى الله عليه وسلم حاله بأنه بعيدٌ عن الإيمان، بعيدٌ عن الحياء. يقول - عليه الصلاة والسلام- تقريراً لهذه المبادئ الواضحة في صلة الإيمان بالخلق القويم- ( ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وإن صام وصلى وحج واعتمر وقال : إني مسلم ! : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان) . فاستمرار الأخلاق ودوامها لا يكون إلا بواحد من ثلاث:سلطة المجتمع أو رادع القانون أو وازع الإيمان، وهذا الأخير هو أقواها وأمتنها،فالإنسان يمكنه أن يفلت من سلطة المجتمع ومن قبضة العدالة،غير أنه إذا تمكن الإيمان في قلبه فلا يمكنه أن يُقبل على أي عمل إلا واستحضر مراقبة الله له. وما يؤكد قوة وازع الإيمان على غيره ، قصة أصحاب الغار،حيث أنه ما كاد أحدهم أن يُواقع ابنة عمه حتى قالت له
اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه) فأقلع الرجل عن فعله إخلاصا لله وهو الذي كان في خلوة بعيدا عن سلطة المجتمع ورادع القانون، وكان هذا سببا في انفراج الهم الذي كانوا فيه. وقصة المرأة الغامدية التي زنت وأتت النبي صلى الله عليه وسلم تطلب أن يقيم عليها الحد دليل دامغ على ما أكدناه آنفا، وما دفعها إلى ذلك إلا قوة إيمانها ،وهي التي لم يطلع أحد على خطيئتها إلى خالقها سبحانه.
والبقية تأتي إنشاء الله