الحاج يحيى بن يدر المزاري : رجل الأعمال المحسن 1918-1978
ارتبط اسم الحاج يحيى بن يدر في سوس خاصة والمغرب عامة بالإحسان وفعل الخير ، وبالاستثمار التجاري للمساهمة في تحريك دوالب الاقتصاد الوطني ، وخلق فرص الشغل من آلاف أبناء هذا الوطن .
ولد السيد يحيى بن يدر بقرية المزار الواقعة بضواحي أكادير بايت ملول سنة 1918 وهو من أصل باعمراني جنوب المغرب ، وقد شب وترعرع في هذه القرية ، كما يشب كثير من أمثاله من أبناء البادية المغربية ، في ظل أسرة محافظة ، فالتحق بمسجد قرية المزار لتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن لأن قرية المزار من قبيلة كسيمة " كانت بها مدرسة قرآنية مشهورة بالقراءات السبع والعشر ، وهي مدرسة يوازي نشاطها وجهاد قرائها نشاط المدارس العلمية وجهاد علمائها الذين أدوا واجبهم لنشر العلوم العربية والإسلامية في هذا الجزء من الوطن . إذ كانت هذه المدرسة من مدارس القراءات العشر في أواخر القرن الثالث عشر على يد جلة من العلماء الأفذاذ كسيدي عبد الله الركراكي ، والمقرئ الشهير سيدي محمد الضحاك الباعمراني .
وكان المرحوم أثناء تعلمه القرآن في هذه المدرسة يتمتع بحيوية ونشاط وذكاء حاد تميز به عن أقرانه بالقرية ، ومع ذلك لم ينل حظا كبيرا من التعليم غير القراءة والكتابة وحفظ ما تيسر له من القرآن الكريم ، إلا أنه بفضل ذكائه المتميز أصبح يتحدث العربية والفرنسية وغيرهما من اللغات الأجنبية الأخرى بطلاقة ، مما يسر له الانخراط في سلك رجال الأعمال الكبار رغم حداثة سنه .وفتح الله عليه في باب التجارة والإحسان إلى الناس ، وتقلب في عدة أنواع من التجارة ، فاستثمر مع الأوربيين أمواله في تجارة عرض الأفلام السينمائية حتى اقترنت معظم دور السينما بالجنوب في أكادير وتارودانت وتزنيت باسمه ، كما استثمر أمواله في السياحة والفلاحة .
وهذه الأنواع من التجارة في وقته قل من يتعاطها من المغاربة ، مما جعله يحتك كثيرا بالأوربيين الذين يمارسون هذا النوع من التجارة لما وجد فيهم من الوضوح في المعاملات ، والعلم بفنون التجارة وألوانها وأشكالها ، كما وجد فيه الأوروبيون الذكاء الحاد والرغبة الأكيدة في الاستثمار المالي مما جعلهم يتشبتون به فشاركوه في الاستثمار طوال حياته .
ورغم تأثره بالأوربيين في معاملاته فقد اعتمد في إدارة شؤونه المالية والإدارية على من أمنهم على ممتلكاته من أبناء قريته كالحاج الحسن بن المدن الذي عاشره مؤتمنا على معظم ممتلكاته منذ شبابه إلى أن وافاه الأجل المحتوم . كما أنه لا يقدم على عمل من الأعمال إلا إذا استشار فيه ذوي الاختصاص من بني جلدته وأقاربه ، فلا يقبل على أمر صغير وكبير إلا بعد المشورة ، ويقرب إليه كل من يستأنس منه الاستفادة من خبرته وتجربته .
وقد هيأ الله لقرية المزار أن تشتهر بسببه على مستوى العلم والمعرفة بفضل تكرمه على جمعية علماء سوس ، بوقف داره وضيعته بهذه القرية لتؤسس عليها كلية الشريعة سنة 1977 ، وهي أول نواة جامعية بالجنوب فحقق بذلك الطموح الذي كان يراود أبناء منطقة سوس الذين ما فتئوا ينادون بإحداث تعليم جامعي بالمنطقة .
وكان هذا الهم من الهموم التي شغلت السيد يحيى بن يدر ، فرغم سعة ذات يده ، وقيامه بفعل الخير المتمثل في بناء المساجد والإنفاق على طلبة مسجد المزار ، والتبرع بأملاكه لإقامة مدارس ابتدائية بقريته ، ولكن رغبته في إقامة نواة التعليم الجامعي ، تتميما للرسالة التي يقوم بها المعهد الإسلامي آنذاك في نشر التعليم الديني العربي الإسلامي ، كانت تراوده دائما ، إلى أن جاءت فرصة انعقاد مؤتمر رابطة علماء المغرب بأكادير يومي 8 ـ 9 ماي 1977م ، فاستضاف المرحوم يحيى بن يدر أعضاء المؤتمر ، ومن ضمنهم رئيس الرابطة آنذاك الأستاذ عبد الله كنون ، فاستشارهم في كيفية تحقيق مثل هذا المشروع العلمي الجامعي الإسلامي ، الذي شغل باله مدة طويلة ، وبعد المذاكرة في الموضوع مع ذوي الرأي السديد ، أعلن أمام الحضور أنه تبرع بداره وضيعته لإقامة مؤسسة جامعية عليها ، فأكد هذا الكلام أمام جلالة الملك الحسن الثاني بفاس بعد أيام من هذا المؤتمر بصحبة وفـد من جمعية علماء سوس ، وبحضور السيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية آنذاك الدكتور أحمد رمزي ، وقال في حقه جلالة الملك ، وهو يحدث العلامة عبد الله كنون رئيس رابطة علماء المغرب ، وهو ضمن الوفد :» لقد سرني أيها الفقيه ما أقدم عليه هذا المواطن الصالح ، وأريد أن أستشير العلماء في هذا الموضوع ، وأتعرف على رأيهم نحو هذه المبادرة الكريمة من سوس . (1)
وقد وعد المرحوم بإعداد تصميم للكلية وبنائها على نفقته ، وأنه يوقف عليها ما يكفي ريعه نفقتها وتجهيزها ، وقد وجه جلالة الملك الخطاب إلى وزير الأوقاف بعد هذا التصريح يقـول فيـه : » علينا أن نعمل جميعا مع هذا المواطن الصالح ، حتى لا يبقى وحده ، علينا أن نشجعه ونتعاون معه ، وما عليك إلا أن تهيئ التصميم وتقدمه لي في أقرب وقت لأتبرع بدوري ، وتتبرع وزارة الأوقاف بدورها لينجز المشروع في أحسن الظروف « (2 )
غير أن أجله قد وافاه قبل إنجاز ذلك الوعد ، فتوفي إلى رحمة الله أواخر عام 1978 ، ولكن المشروع تحقق كما تصوره ، إذ انطلقت الدراسة الجامعية في مفتتح الموسم الجامعي 78ـ79 في داره بقرية المزار ، التي كانت عبارة عن دار كبيرة فيها قبة مزخرفة وصالونات لاستقبال الضيوف ، ومسبح وقاعة للسينما لعرض الأفلام ، وغرف متعددة ، فتحولت هذه الغرف إلى إدارة الكلية ، والسينما إلى مدرج لإلقاء الدروس ، والقبة لقاعة الأساتذة إلى أن شيدت الكلية وفق تصميم يستجيب لحاجات المؤسسة الجامعية مع التجهيزات المطلوبة على نفس الضيعة بجانب المنزل الذي ما زال محتفظا برونقته وجماله المعماري كما صممه المرحوم يحيى بن يدر ، فأصبحت الآن كلية الشريعة التابعة لجامعة القرويين ضمن المؤسسات الجامعية التي ساهمت في تطوير البحث العلمي الجامعي ، ونشر التعليم الديني الإسلامي العربي بمنطقة سوس والمغرب عامة ، فأصبحت قرية المزار الآن مقرونة بهذه الكلية ومعروفة ، وقد اختاره الله إلى جواره وهو في أوج عطاءاته الخيرية في مختلف الميادين ، فرحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته ، وقد انطبق عليه قول رسول الله : » إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له « أخرجه مسلم وغيره.
انجز الترجمة : د. الحسين أفـا
كلية الشريعة أكادير
1 : من كلمة العميد في الذكرى العاشرة لتأسيس كلية الشريعة بالمزار3 دجنبر 1988
2 : نفس المرجع
موقع كلية الشريعة