في الأسبوع القادم، تفتح جنوب إفريقيا ذراعيها لأكبر تظاهرة عالمية، وتستضيف عشرات الآلاف من محبي الكرة وعشاق الرياضة، وستصبح قبلة لأكثر من 3 مليارات من البشر يتابعون كأس العالم في كرة القدم عبر الشاشات الصغيرة وكل وسيلة إعلامية تربط الإنسان بموقع الحدث...
لن أتحدث في رياضة لا أعرف فيها أكثر مما يعرفه أي متفرج أقل من عادي، ولن أشرع في نظم قصائد الرثاء ومعلقات العزاء في فريقنا الوطني، الذي تخلف للموسم الثالث على التوالي عن حضور أكبر عرس كروي على وجه الكرة الأكبر.. أي الأرض، بل أريد أن ألفت النظر سريعا إلى أن هذه التظاهرة الكبيرة ستنظم لأول مرة في القارة السمراء بفضل نضال العم نيلسون مانديلا، الزعيم التاريخي للسود ولكل مناضلي العالم... فلولا سمعته الدولية ووزنه المعنوي، الذي يجعل كبار قادة العالم يتسابقون لزيارته ولأخذ صور تذكارية معه.. لولا هذا المناضل الشيخ الذي أمضى 27 سنة من حياته وراء القضبان من أجل قضية شعبه، لما حطت تظاهرة عالمية، مثل كأس العالم، رحالها على أرض إفريقية. دعكم من أحلام يقظة بنهيمة والكتاني وغيرهم من بني جلدتنا، كانوا يحلمون يوما باستضافة نهائيات كأس العالم في بلاد مازالت فيها النوادي الرياضية تدار على طريقة إدريس البصري، رحمه الله، ومازالت جل مشاريعها الرياضية مجسمات على «الماكيت» لم تعرف للإنجاز طريقا بعد.
سمعة مانديلا العالمية لم يكتسبها من 27 سنة التي قضاها وراء القضبان، فكثيرون غيره أمضوا أكثر من هذه المدة في الزنازين، لكنهم لم يصلوا إلى شهرته وتأثيره وإلى الكاريزما التي يتمتع بها اليوم. مانديلا نجح في ثلاثة اختبارات صعبة ومعقدة، واستطاع أن يجتازها بنجاح باهر.
نحج في الصمود في وجه نظام الميز العنصري الذي كان يجعل من السود قبيلة عبيد لدى الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا، وتحمل سنوات من السجن ومن الإغراء من أجل قضية شعبه ومبادئ أمته. 27 سنة وسجانوه يفاوضونه على ربع ما يطلب، ثم على نصف ما يطلب، ثم على ثلاثة أرباع ما يطلب، لكنه كان يرفض، وكان السجن أحب عليه مما يدعونه إليه، حتى قضى عمرا كاملا والأغلال في رجليه.
ثانيا: نجح مانديلا في اختبار أكبر هو العفو عند المقدرة، والصفح عن عدو الأمس من أجل بناء دولة الغد. لم ينتقم من البيض، ولم يصغ لدعوات كثيرة انطلقت على يمينه وعلى يساره، وهو رئيس البلاد بلا منازع ورئيس السلطة بلا جدال. دعوات كانت تحرضه على الانتقام من سنوات الذل والهوان والقتل والتعذيب والإهانة التي عاناها شعبه. قال لا لكل هذه الدعوات، وأوكل ملف الماضي الأسود للنظام البائد إلى القس ديزموند توتو، الذي عالجه بكياسة رجل الدين الذي يطلب الاعتراف بالحقيقة مقابل العفو والصفح، وهكذا كان. بكت البلاد كثيرا عندما انطلقت اعترافات الشرطة والجيش والمخابرات على عهد النظام البائد.. كيف كان قتل الأسود أسهل من قتل البعوض، وكيف كانت الكلاب تأكل من اللحم الحي للإنسان الأسود، وكيف كان الاغتصاب وسيلة للتحقير والإذلال، وكيف أن آلة القمع لم تكن تميز بين رجل وامرأة وشيخ وطفل... لكن دموع الأمة طهرت القلوب من دعوات الحقد والانتقام.
ثالثا: نجح الشيخ مانديلا في الامتحان الأصعب، وهو الخروج من السلطة سالما معافى ويده بيضاء. الكثير الكثير من زعماء إفريقيا وآسيا كانوا «أنبياء» وهم في المعارضة أو في السجن، لكن أول ما جاءت السلطة إلى أيديهم حولتهم إلى شياطين، لأنهم سقطوا صرعى شهوتها. مانديلا تعفف وهو في القمة، ونزل عن العرش ليجعل الديمقراطية تجلس فوقه... يقول الإمام علي كرم الله وجهه: «الصبر صبران، صبر على ما تحب وصبر على ما تكره». الكثيرون صبروا على السجن والتعذيب، لكنهم لم يصبروا أمام فتنة المال والجاه والسلطة... لهذا فإن الرابح الأكبر، في هذا الموسم الكروي، معروف قبل حتى أن تنطلق المنافسات.. إنه رجل بقامة قارة، إنه العم نيلسون مانديلا.